فصل: تفسير الآية رقم (2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

الفاء عاطفة على كلام مقدّر دل عليه المقام، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسّس من يوسف عليه السلام، فوصلوا مصر، فدخلوا على يوسف، ‏{‏فلما دخلوا عليه‏}‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وقد تقدم آنفاً وجه دعائهم يوسف عليه السلام بوصف العزيز‏.‏

وأرادوا بمسّ الضر إصَابته‏.‏ وقد تقدم إطلاق مسّ الضرّ على الإصابة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يمسسك الله بضر‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏17‏)‏‏.‏

والبضاعة تقدمت آنفاً‏.‏ والمزجاة‏:‏ القليلة التي لا يرغب فيها فكأنّ صاحبها يُزجيها، أي يدفعها بكفة ليقبلها المدفوعة إليه‏.‏ والمراد بها مال قليل للامتيار، ولذلك فرع عليه فأوف لنا الكيل‏}‏‏.‏ وطلبوا التصدّق منه تعريضاً بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكاً له كما تقدم‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله يجزي المتصدّقين‏}‏ تعليل لاستدعائهم التصدّق عليهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 93‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

الاستفهام مستعمل في التوبيخ‏.‏

و ‏{‏هل‏}‏ مفيدة للتحْقيق لأنها بمعنى ‏{‏قد‏}‏ في الاستفهام‏.‏ فهو توبيخ على ما يعلمونه محققاً من أفعالهم مع يوسف عليه السلام وأخيه، أي أفعالهم الذميمة بقرينة التوبيخ، وهي بالنسبة ليوسف عليه السلام واضحة، وأما بالنسبة إلى بنيامين فهي ما كانوا يعاملونه به مع أخيه يوسف عليه السلام من الإهانة التي تنافيها الأخوة، ولذلك جعل ذلك الزمن زمن جهالتهم بقوله‏:‏ ‏{‏إذ أنتم جاهلون‏}‏‏.‏

وفيه تعريض بأنهم قد صلح حالهم من بعد‏.‏ وذلك إما بوحي من الله إن كان صار نبيئاً أو بالفراسة لأنه لما رآهم حريصين على رغبات أبيهم في طلب فداء ‏(‏بنيامين‏)‏ حين أُخذ في حكم تهمة السرقة وفي طلب سراحه في هذا الموقف مع الإلحاح في ذلك وكان يعرف منهم معاكسة أبيهم في شأن بنيامين علم أنهم ثابوا إلى صلاح‏.‏

وإنما كاشفهم بحاله الآن لأن الاطلاع على حاله يقتضي استجلاب أبيه وأهله إلى السكنى بأرض ولايته، وذلك كان متوقفاً على أشياء لعلها لم تتهيأ إلا حينئذٍ‏.‏ وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 79‏]‏ فقد صار يوسف عليه السلام جِدّ مكين عند فرعون‏.‏

وفي الإصحاح ‏(‏45‏)‏ من سفر التكوين أن يوسف عليه السلام قال لإخوته حينئذٍ وهو أي الله قد جعلني أباً لفرعون وسيداً لكل بيته ومتسلطاً على كل أرض مصر‏.‏ فالظاهر أن الملك الذي أطلق يوسف عليه السلام من السجن وجعله عزيز مصر قد توفّي وخلفه ابن له فجبه يوسفُ عليه السلام وصار للملك الشاب بمنزلة الأب، وصار متصرّفاً بما يريد، فرأى الحال مساعداً لجلب عشيرته إلى أرض مصر‏.‏

ولا تعرف أسماء ملوك مصر في هذا الزمن الذي كان فيه يوسف عليه السلام لأن المملكة أيامئذٍ كانت منقسمة إلى مملكتين‏:‏ إحداهما ملوكها من القبط وهم الملوك الذين يُقسهم المؤرخون الإفرنج إلى العائلات الخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة، وبعض الثامنة عشرة‏.‏

والمملكة الثانية ملوكها من الهكسوس، ويقال لهم‏:‏ العمالقة أو الرعاة وهم عَرب‏.‏

ودام هذا الانقسام خمسمائة سنة وإحدى عشرة سنة من سنة ‏(‏2214‏)‏ قبل المسيح إلى سنة ‏(‏1703‏)‏ قبل المسيح‏.‏

وقولهم‏:‏ أإنك لأنت يوسف‏}‏ يدل على أنهم استشعروا من كلامه ثم من ملامحه ثم من تفهم قَول أبيهم لهم‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ إذ قد اتضح لهم المعنى التعريضي من كلامه فعرفوا أنه يتكلم مريداً نفسه‏.‏

وتأكيد الجملة ب ‏{‏إنّ‏}‏ ولام الابتداء وضمير الفصل لشدة تحققهم أنه يوسف عليه السلام‏.‏

وأدخل الاستفهام التقريري على الجملة المؤكّدة لأنهم تطلبوا تأييده لعلِمهم به‏.‏

وقرأ ابن كثير ‏{‏إنك‏}‏ بغير استفهام على الخبرية، والمراد لازم فائدة الخبر، أي عرفناك، ألا ترى أن جوابه ب ‏{‏أنَا يوسف‏}‏ مجرد عن التأكيد لأنهم كانوا متحققين ذلك فلم يبق إلا تأييده لذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهذا أخي‏}‏ خبر مستعمل في التعجيب من جمع الله بينهما بعد طول الفرقة، فجملة ‏{‏قد من الله علينا‏}‏ بيان للمقصود من جملة ‏{‏وهذا أخي‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنه من يتق ويصبر‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏منَّ الله علينا‏}‏‏.‏ فيوسف عليه السلام اتّقى الله وصبر وبنيامين صَبر ولم يعْص الله فكان تقياً‏.‏ أراد يوسف عليه السلام تعليمهم وسائل التعرض إلى نعم الله تعالى، وحثهم على التقوى والتخلق بالصبر تعريضاً بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم‏.‏

وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة، وهي فرصة تأثر السامع وانفعاله وظهور شواهد صدق الواعظ في موعظته‏.‏

وذكر المحسنين وضعٌ للظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فإن الله لا يضيع أجرهُم‏.‏ فعدل عنه إلى المحسنين للدلالة على أن ذلك من الإحسان، وللتعميم في الحكم ليكون كالتذييل، ويدخل في عمومه هو وأخوه‏.‏

ثم إن هذا في مقام التحدث بالنعمة وإظهار الموعظة سائغ للأنبياء لأنه من التبليغ كقول النبي صلى الله عليه وسلم «إنّي لأتقاكم لله وأعلمكم به»‏.‏

والإيثار‏:‏ التفضيل بالعطاء‏.‏ وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبتَه، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك لأن يوسف عليه السلام يعلمه‏.‏ والمراد‏:‏ الإيثار في الدنيا بما أعطاه الله من النعم‏.‏

واعترفوا بذنبهم إذ قالوا‏:‏ ‏{‏وإنّ كنا لخاطئين‏}‏‏.‏ والخاطئ‏:‏ فاعل الخطيئة، أي الجريمة، فنفعت فيهم الموعظة‏.‏

ولذلك أعلمهم بأن الذنب قد غفر فرفع عنهم الذم فقال‏:‏ ‏{‏لا تثريب عليكم‏}‏‏.‏

والتثريب‏:‏ التوبيخ والتقريع‏.‏ والظاهر أن منتهى الجملة هو قوله‏:‏ ‏{‏عليكم‏}‏، لأن مثل هذا القول مِمّا يجري مجرى المثل فيُبنى على الاختصار فيكتفي ب ‏{‏لا تثريب‏}‏ مثل قولهم‏:‏ لا بأس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا وزر‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وزيادة عليكم‏}‏ للتأكيد مثل زيادة ‏{‏لَك‏}‏ بعد ‏(‏سقياً ورعياً‏)‏، فلا يكون قوله‏:‏ ‏{‏اليوم‏}‏ من تمام الجملة ولكنه متعلق بفعل ‏{‏يغفر الله لكم‏}‏‏.‏

وأعقب ذلك بأن أعلمهُم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة لأنها ساعة توبة، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم‏.‏

وأطلق ‏{‏اليوم‏}‏ على الزمن، وقد مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اليوم يئس الذين كفروا من دينكم‏}‏ في أول سورة العقود ‏(‏3‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ اذهبوا بقميصي هذا‏}‏ يدل على أنه أعطاهم قميصاً، فلعلّه جعل قميصه علامة لأبيه على حياته، ولعلّ ذلك كان مصطلحاً عليه بينهما‏.‏ وكان للعائلات في النظام القديم علامات يصطلحون عليها ويحتفظون بها لتكون وسائل للتعارف بينهم عند الفتن والاغتراب، إذ كانت تعتريهم حوادث الفقد والفراق بالغزو والغارات وقطع الطريق، وتلك العلامات من لباس ومِن كلمات يتعارفون بها وهي الشعار، ومن علامات في البَدن وشَامات‏.‏

وفائدة إرساله إلى أبيه القميصَ أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر، ولقصد تعجيل المسرة له‏.‏

والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف عليه السلام بجلبه فإنّ قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصاً ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم، فجعل يوسف عليه السلام إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف عليه السلام بخبر صدق‏.‏

ومن البعيد مَا قيل‏:‏ إن القميص كان قميص إبراهيم عليه السلام مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب‏.‏

وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبُشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب‏.‏

وأما كونه يصير بصيراً فحصل ليوسف عليه السلام بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين‏.‏ ولعل يوسف عليه السلام نُبيءَ ساعتئذٍ‏.‏

وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجاً بليغاً إذ قال‏:‏ ‏{‏يأت بصيراً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وأتوني بأهلكم أجمعين‏}‏ لقصد صلة أرحام عشيرته‏.‏ قال المفسرون‏:‏ وكانت عشيرة يعقوب عليه السلام ستا وسبعين نفساً بين رجال ونساء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 98‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ‏(‏97‏)‏ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏‏}‏

التقدير‏:‏ فخرجوا وارتحلوا في عير‏.‏

ومعنى فصلتْ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم * فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خاطئين * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ ابتعدت عن المكان، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما فصل طالوت بالجنود‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏249‏)‏‏.‏

والعير تقدم آنفاً، وهي العير التي أقبلوا فيها من فلسطين‏.‏

ووجدَانُ يعقوب ريح يوسف عليهما السلام إلهام خارق للعادة جعله الله بشارة له إذ ذكره بشمه الريح الذي ضمّخ به يوسف عليه السلام حين خروجه مع إخوته وهذا من صنف الوحي بدون كلام ملك مُرسل‏.‏ وهو داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً‏}‏ ‏[‏سورة الشورى‏:‏ 51‏]‏‏.‏

والريح‏:‏ الرائحة، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسة الشم‏.‏

وأكد هذالخبر بإنّ‏}‏ واللام لأنه مظنة الإنكار ولذلك أعقبه ب ‏{‏لولا أن تفندون‏}‏‏.‏

وجواب ‏{‏لولا‏}‏ محذوف دلّ عليه التأكيد، أي لولا أن تفندوني لتحققتم ذلك‏.‏

والتفنيد‏:‏ النسبة للفنَد بفتحتين، وهو اختلال العقل من الخرف‏.‏

وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً بعد نون الوقاية وبقيت الكسرة‏.‏

والذين قالوا‏:‏ ‏{‏تالله إنك لفي ضلالك القديم‏}‏ هم الحاضرون من أهله ولم يسبق ذكرهم لظهور المراد منهم وليسوا أبناءه لأنهم كانوا سائرين في طريقهم إليه‏.‏

والضلال‏:‏ البُعْد عن الطريق الموصّلة‏.‏ والظرفية مجاز في قوة الاتّصاف والتلبّس وأنه كتلبس المظروف بالظرف‏.‏ والمعنى‏:‏ أنك مستمر على التلبس بتطلب شيء من غير طريقه‏.‏ أرادوا طمعه في لقاء يوسف عليه السلام‏.‏ ووصفوا ذلك بالقديم لطول مدّته، وكانت مدة غيبة يوسف عن أبيه عليهما السلام اثنتين وعشرين سنة‏.‏ وكان خطابهم إياه بهذا مشتملاً على شيء من الخشونة إذ لم يكن أدب عشيرته منافياً لذلك في عرفهم‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فلما أن جاء البشير‏}‏ مزيدة للتأكيد‏.‏ ووقوع ‏{‏أنْ‏}‏ بعد ‏{‏لمّا‏}‏ التوقيتية كثير في الكلام كما في «مغني اللّبيب»‏.‏

وفائدة التأكيد في هذه الآية تحقيق هذه الكرامة الحاصلة ليعقوب عليه السلام لأنها خارق عادة، ولذلك لم يؤت ب ‏{‏أن‏}‏ في نظائر هذه الآية مما لم يكن فيه داع للتأكيد‏.‏

والبشير‏:‏ فعيل بمعنى مُفعل، أي المُبشر، مثل السميع في قول عمرو بن معديكرب‏:‏

أمِن ريحانة الداعي السميع

والتبشير‏:‏ المبادرة بإبلاغ الخبر المسرّ بقصد إدخال السرور‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يبشرّهم ربهم برحمة منه‏}‏ في سورة براءة ‏(‏21‏)‏‏.‏ وهذا البشير هو يهوذا بن يعقوب عليه السلام تقدم بين يدي العِير ليكون أول من يخبر أباه بخبر يوسف عليه السلام‏.‏

وارتد‏:‏ رجع، وهو افتعال مطاوع ردّه، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف عليهما السلام وخارق للعادة‏.‏ وقد أشرت إلى ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وابيضّت عيناه من الحزن‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 84‏]‏‏.‏

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إنى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خاطئين * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏

جواب للبشارة لأنها تضمنت القول، ولذلك جاء فعل ‏{‏قال‏}‏ مفصولاً غير معطوف لأنه على طريقة المحاورات، وكان بقية أبنائه قد دخلوا فخاطبهم بقوله‏:‏ ‏{‏ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ فبيّن لهم مجمل كلامه الذي أجابهم به حين قالوا‏:‏ ‏{‏تالله تفتأ تذكر يوسف‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 85‏]‏ الخ‏.‏

وقولهم‏:‏ استغفر لنا ذنوبنا‏}‏ توبة واعتراف بالذنب، فسألوا أباهم أن يطلب لهم المغفرة من الله‏.‏ وإنما وعدهم بالاستغفار في المستقبل إذ قال‏:‏ ‏{‏سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ للدلالة على أنه يلازم الاستغفار لهم في أزمنة المستقبل‏.‏ ويعلم منه أنه استغفر لهم في الحال بدلالة الفحوى؛ ولكنه أراد أن ينبههم إلى عظم الذنب وعظمة الله تعالى وأنه سيكرر الاستغفار لهم في أزمنة مستقبلة‏.‏ وقيل‏:‏ أخّر الاستغفار لهم إلى ساعة هي مظنة الإجابة‏.‏ وعن ابن عباس مرفوعاً أنه أخر إلى ليلة الجمعة، رواه الطبري‏.‏ وقال ابن كثير‏:‏ في رفعه نظر‏.‏

وجملة ‏{‏إنه هو الغفور الرحيم‏}‏ في موضع التعليل لجملة ‏{‏أستغفر لكم ربي‏}‏‏.‏ وأكد بضمير الفصل لتقوية الخبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

طوى ذكر سفرهم من بلادهم إلى دخولهم على يوسف عليه السلام إذ ليس فيه من العبر شيء‏.‏

وأبواه أحدهما يعقوب عليه السلام وأما الآخر فالصحيح أن أم يوسف عليه السلام وهي ‏(‏راحيل‏)‏ توفيت قبل ذلك حين ولدت بنيامين، ولذلك قال جمهور المفسّرين‏:‏ أطلق الأبوان على الأب زوج الأب وهي ‏(‏ليئة‏)‏ خالة يوسف عليه السلام وهي التي تولت تربيته على طريقة التغليب والتنزيل‏.‏

وإعادة اسم يوسف عليه السلام لأجل بعد المعاد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين‏}‏ جملة دعائية بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إن شاء الله‏}‏ لكونهم قد دخلوا مصر حينئذٍ‏.‏ فالأمر في ‏{‏ادخلوا‏}‏ للدعاء كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة لا خوف عليكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

والمقصود‏:‏ تقييد الدخول بآمنين‏}‏ وهو مناط الدعاء‏.‏

والأمنُ‏:‏ حالة اطمئنان النفس وراحة البال وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك‏.‏ ولذلك قالوا في دعوة إبراهيم عليه السلام ‏{‏ربّ اجعل هذا البلد آمناً‏}‏ إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد‏.‏

وجملة ‏{‏إن شاء الله‏}‏ تأدب مع الله كالاحتراس في الدعاء الوارد بصيغة الأمر وهو لمجرد التيمّن، فوقوعه في الوعد والعزم والدعاءِ بمنزلة وقوع التسمية في أول الكلام وليس هو من الاستثناء الوارد النهي عنه في الحديث‏:‏ أن لا يقول اغفر لي إن شئت، فإنه لا مُكره له لأن ذلك في الدعاء المخاطب به الله صراحة‏.‏ وجملة ‏{‏إن شاء الله‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ادخلوا‏}‏ والحال من ضميرها‏.‏

والعرش‏:‏ سرير للقعود فيكون مرتفعاً على سوق، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتّكاء‏.‏ والسجود‏:‏ وضع الجبهة على الأرض تعظيماً للذات أو لصورتها أو لذِكرها، قال الأعشى‏:‏

فلما أتانا بُعيد الكَرى *** سَجدنا له ورفَعْنا العَمَار

وفعله قاصر فيعدى إلى مفعوله باللام كما في الآية‏.‏

والخرور‏:‏ الهوي والسقوط من علو إلى الأرض‏.‏

والذين خروا سُجداً هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله‏:‏ ‏{‏هذا تأويل رؤياي‏}‏ وهم أحد عشر وهم‏:‏ رأوبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، ويساكر، وربولون، وجاد، وأشير، ودان، ونفتالي، وبنيامين‏.‏ و‏{‏الشمس‏}‏، و‏{‏القمر‏}‏، تعبيرهما أبواه يعقوب عليه السلام وراحيل‏.‏

وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم، ولم يكن يومئذٍ ممنوعاً في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقاً لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية‏.‏ ولذلك فلا يعدّ قبوله السجودَ من أبيه عقوقاً لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم‏.‏

والأحسن أن تكون جملة ‏{‏وخروا‏}‏ حالية لأن التحية كانت قبل أن يرفع أبويه على العرش، على أن الواو لا تفيد ترتيباً‏.‏

و ‏{‏سجدا‏}‏ حال مبيّنة لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏هذا تأويل رؤياي‏}‏ إشارة إلى سجود أبويه وإخوته له هو مصداق رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً سُجداً له‏.‏

وتأويل الرؤيا تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏نبئنا بتأويله‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 36‏]‏‏.‏

ومعنى قد جعلها ربي حقا‏}‏ أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشِف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس، أي ولم يجعلها باطلاً من أضعاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية‏.‏

ومعنى ‏{‏أحسن بي‏}‏ أحسن إليّ‏.‏ يقال‏:‏ أحسن به وأحسن إليه، من غير تضمين معنى فعل آخر‏.‏ وقيل‏:‏ هو بتضمين أحسن معنى لطف‏.‏ وباء ‏{‏بي‏}‏ للملابسة أي جعل إحسانه ملابساً لي، وخصّ من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتيار أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية‏.‏

فإن ‏{‏إذْ‏}‏ ظرف زمان لفعل ‏{‏أحسن‏}‏ فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود، فإن ذلك الوقت كان زمنَ ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة، وزمنَ خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبّة، وبخلطة من لا يشاكلونه، وبشْغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية، وكان أيضاً زمن إقبال الملك عليه‏.‏ وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم، فأفصح بذكر خروجه من السجن، ومجيء أهله من البدوِ إلى حيث هو مكين قويّ‏.‏

وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجبّ، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله‏:‏ ‏{‏من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي‏}‏، فكلمة ‏{‏بعد‏}‏ اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره‏.‏ وقد ألم به إجمالاً اقتصاراً على شكر النعمة وإعراضاً عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمرّ بها مرّ الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان‏.‏

والمجيء في قوله‏:‏ ‏{‏وجاء بكم من البدو‏}‏ نعمة، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو‏.‏

والبَدْو‏:‏ ضد الحضر، سمي بَدواً لأن سكانه بادُون، أي ظَاهرون لكل واردٍ، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب‏.‏ وذكر ‏{‏من البدو‏}‏ إظهار لتمام النعمة، لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة‏.‏

والنزغ‏:‏ مجاز في إدخال الفساد في النفس‏.‏ شُبه بنزغ الراكب الدابّة وهو نخسها‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإما ينزغنّك من الشيطان نزغ‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏200‏)‏‏.‏

وجملة إن ربي لطيف لما يشاء‏}‏ مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها‏.‏

واللطف‏:‏ تدبير الملائم‏.‏ وهو يتعدّى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به، ويتعدى بالباء قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله لطيف بعباده‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏103‏)‏‏.‏

وجملة إنه هو العليم الحكيم‏}‏ مستأنفة أيضاً أو تعليل لجملة ‏{‏إن ربي لطيف لما يشاء‏}‏‏.‏ وحرف التوكيد للاهتمام، وتوسيط ضمير الفصل للتقوية‏.‏

وتفسير ‏{‏العليم‏}‏ تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏32‏)‏‏.‏ والحكيم‏}‏ تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فاعلموا أن الله عزيز حكيم‏}‏ أواسط سورة البقرة ‏(‏209‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

أعقب ذكر نعمة الله عليه بتوجهه إلى مناجاة ربه بالاعتراف بأعظم نعم الدنيا والنعمة العظمى في الآخرة، فذكر ثلاث نعم‏:‏ اثنتان دنيويتان وهما‏:‏ نعمة الولاية على الأرض ونعمة العلم، والثالثة‏:‏ أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام وجعل الذي أوتيه بعضاً من الملك ومن التأويل لأن ما أوتيه بعض من جنس الملك وبعض من التأويل إشعاراً بأن ذلك في جانب مُلك الله وفي جانب علمه شيء قليل‏.‏ وعلى هذا يكون المراد بالمُلك التصرف العظيم الشبيه بتصرف المَلِك إذ كان يوسف عليه السلام هو الذي يُسير المَلك برأيه‏.‏ ويجوز أن يراد بالمُلك حقيقته ويكون التبعيض حقيقياً، أي آتيتني بعض المُلك لأن المُلك مجموع تصرفات في أمر الرعية، وكان ليوسف عليه السلام من ذلك الحظُّ الأوفر، وكذلك تأويل الأحاديث‏.‏

وتقدم معنى تأويل الأحاديث عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعلمك من تأويل الأحاديث‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 6‏]‏ في هذه السورة‏.‏

وفاطر السماوات والأرض‏}‏ نداء محذوف حرف ندائه‏.‏ والفاطر‏:‏ الخالق‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السماوات والأرض‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏14‏)‏‏.‏

والولي‏:‏ الناصر، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أغير الله أتخذ ولياً‏}‏ في سورة الأنعام‏.‏

وجملة ‏{‏أنت ولي في الدنيا والآخرة‏}‏ من قبيل الخبر في إنشاء الدعاء وإن أمكن حمله على الإخبار بالنسبة لولاية الدنيا، قيل لإثباته ذلك الشيء لولاية الآخرة‏.‏ فالمعنى‏:‏ كن وليي في الدنيا والآخرة‏.‏

وأشار بقوله‏:‏ ‏{‏توفني مسلما‏}‏ إلى النعمة العظمى وهي نعمة الدين الحق، فإن طلب توفّيه على الدين الحق يقتضي أنه متصف بالدين الحق المعبر عنه بالإسلام من الآن، فهو يسأل الدوام عليه إلى الوفاة‏.‏

والمسلم‏:‏ الذي اتصف بالإسلام، وهو الدين الكامل، وهو ما تعبّدَ اللّهَ به الأنبياء والرسل عليهم السلام‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏102‏)‏‏.‏

والإلحاق‏:‏ حقيقته جعل الشيء لاَ حقاً، أي مُدركاً من سبقه في السّيْر‏.‏ وأطلق هنا مجازاً على المَزيد في عداد قوم‏.‏

والصالحون‏:‏ المتصفون بالصلاح، وهو التزام الطاعة‏.‏ وأراد بهم الأنبياء‏.‏ فإن كان يوسف عليه السلام يومئذٍ نبيئاً فدعاؤهُ لطلب الدوام على ذلك، وإن كان نُبّئ فيما بعد فهو دعاء لحصوله، وقد صار نبيئاً بعد ورسولاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

تذييل للقصة عند انتهائها‏.‏ والإشارة إلى ما ذُكر من الحادث أي ذلك المذكور‏.‏

واسم الإشارة لتمييز الأنباء أكمل تمييز لتتمكن من عقول السامعين لما فيها من المواعظ‏.‏

و ‏{‏الغيب‏}‏ ما غاب عن علم الناس، وأصله مصدر غاب فسمي به الشيء الذي لا يشاهد‏.‏ وتذكير ضمير ‏{‏نوحيه‏}‏ لأجل مراعاة اسم الإشارة‏.‏

وضمائر ‏{‏لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون‏}‏ عائدة إلى كل من صدر منه ذلك في هذه القصة من الرجال والنساء على طريقة التغليب، يشمل إخوة يوسف عليه السلام والسيارةَ، وامرأةَ العزيز، ونسوتَها‏.‏

و ‏{‏أجمعوا أمرهم‏}‏ تَفسيره مثل قوله‏:‏ ‏{‏وأجمعوا أن يجعلوه في غيابَات الجب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 15‏]‏‏.‏

والمكر تقدم، وهذه الجملة استخلاص لمواضع العبرة من القصة‏.‏ وفيها منّة على النبي، وتعريض للمشركين بتنبيههم لإعجاز القرآن من الجانب العلمي، فإن صدور ذلك من النّبي الأميّ آية كبرى على أنه وحي من الله تعالى‏.‏ ولذلك عقب بقوله‏:‏ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏‏.‏

وكان في قوله‏:‏ ‏{‏وما كنت لديهم‏}‏ توركاً على المشركين‏.‏ وجملة ‏{‏وما كنت لديهم‏}‏ في موضع الحال إذ هي تمام التعجيب‏.‏

وجملة ‏{‏وهم يمكرون‏}‏ حال من ضمير ‏{‏أجمعوا‏}‏، وأتي ‏{‏يمكرون‏}‏ بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

انتقال من سوق هذه القصة إلى العبرة بتصميم المشركين على التكذيب بعد هذه الدلائل البينة، فالواو للعطف على جملة ‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 102‏]‏ باعتبار إفادتها أن هذا القرآن وحي من الله وأنه حقيق بأن يكون داعياً سامعيه إلى الإيمان بالنبي‏.‏ ولما كان ذلك من شأنه أن يكون مطمعاً في إيمانهم عقب بإعلام النبي بأن أكثرهم لا يؤمنون‏.‏

والناس‏}‏ يجوز حمله على جميع جنس الناس، ويجوز أن يراد به ناس معيّنون وهم القوم الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بمكّة وما حولها، فيكون عموماً عرفياً‏.‏

وجملة ‏{‏ولو حرصت‏}‏ في موضع الحال معترضة بين اسم ‏{‏ما‏}‏ وخبرها‏.‏

‏{‏ولو‏}‏ هذه وصلية، وهي التي تفيد أن شرطها هو أقصى الأسباب لجوابها‏.‏ وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏91‏)‏‏.‏

وجواب لو‏}‏ هو ‏{‏وما أكثر الناس‏}‏ مقدّم عليها أو دليل الجواب‏.‏

والحرص‏:‏ شدة الطلب لتحصيل شيء ومعاودته‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حريص عليكم‏}‏ في آخر سورة براءة ‏(‏128‏)‏‏.‏

وجملة وما تسألهم عليه من أجر‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وما أكثر الناس‏}‏ إلى آخرها باعتبار ما أفادته من التأييس من إيمان أكثرهم‏.‏ أي لا يسوءك عدم إيمانهم فلست تبتغي أن يكون إيمانهم جزاء على التبليغ بل إيمانهم لفائدتهم، كقوله‏:‏ ‏{‏قل لا تمنوا علي إسلامكم‏}‏ ‏[‏سورة الحجرات‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وضمير الجمع في قوله‏:‏ وما تسألهم‏}‏ عائد إلى الناس، أي الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم

وجملة ‏{‏إن هو إلا ذكر للعالمين‏}‏ بمنزلة التعليل لجملة ‏{‏وما تسألهم عليه من أجر‏}‏‏.‏ والقصر إضافي، أي ما هو إلا ذكر للعالمين لا لتحصيل أجرِ مبلّغه‏.‏

وضمير ‏{‏عليه‏}‏ عائد إلى القرآن المعلوم من قوله‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 102‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 106‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏، أي ليس إعراضهم عن آية حصول العلم للأمّي بما في الكتب السالفة فحسب بل هم معرضون عن آيات كثيرة في السماوات والأرض‏.‏

و ‏{‏كأين‏}‏ اسم يدل على كثرة العدد المبهم يبينه تمييز مجرور ب ‏{‏من‏}‏‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من نبيء قاتل معه ربيون كثير‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏146‏)‏‏.‏

والآية‏:‏ العلامة، والمراد هنا الدالةُ على وحدانية الله تعالى بقرينة ذكر الإشراك بعدها‏.‏

ومعنى يمرون عليها‏}‏ يرونها، والمرور مجاز مكنّى به عن التحقق والمشاهدة إذ لا يصح حمل المرور على المعنى الحقيقي بالنسبة لآيات السماوات، فالمرور هنا كالذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا مروا باللغو مروُّا كراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وضمير يمرون‏}‏ عائد إلى الناس من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يمرون‏}‏ أي وما يؤمن أكثر الناس إلا وهم مشركون، والمراد ب ‏{‏أكثر الناس‏}‏ أهل الشرك من العرب‏.‏ وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله‏}‏، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية‏.‏

والاستثناء من عموم الأحوال، فجملة ‏{‏وهم مشركون‏}‏ حال من ‏{‏أكثرهم‏}‏‏.‏ والمقصود من هذا تشنيع حالهم‏.‏ والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم‏.‏ وإسناد هذا الحكم إلى ‏{‏أكثرهم‏}‏ باعتبار أكثر أحْوالهم وأقوالهم لأنهم قد تصدر عنهم أقوال خلية عن ذكر الشريك‏.‏ وليس المراد أن بعضاً منهم يؤمن بالله غير مشرك معه إلها آخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

اعتراض بالتفريع على ما دلت عليه الجملتان قبله من تفظيع حالهم وجرأتهم على خالقهم والاستمرار على ذلك دون إقلاع، فكأنهم في إعراضهم عن توقع حصول غضب الله بهم آمنون أن تأتيهم غاشية من عذابه في الدنيا أو تأتيهم الساعة بغتة فتحول بينهم وبين التوبة ويصيرون إلى العذاب الخالد‏.‏

والاستفهام مستعمل في التوبيخ‏.‏

والغشْي والغشيان‏:‏ الإحاطة من كل جانب ‏{‏وإذا غشيهم موج كالظلل‏}‏ ‏[‏سورة لقمان‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وتقدم في قوله تعالى يغشي الليل النهار في ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

والغاشية الحادثة التي تحيط بالناس‏.‏ والعرب يؤنثون هذه الحوادث مثل الطّامة والصاخة والداهية والمصيبة والكارثة والحادثة والواقعة والحاقة‏.‏ والبغتة‏:‏ الفجأة‏.‏ وتقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة‏}‏ في آخر سورة الأنعام ‏(‏31‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي للانتقال من الاعتبار بدلالة نزول هذه القصة للنبيء صلى الله عليه وسلم الأمّيّ على صدق نبُوءته وصدقه فيما جاء به من التوحيد إلى الاعتبار بجميع ما جاء به من هذه الشريعة عن الله تعالى، وهو المعبّر عنه بالسبيل على وجه الاستعارة لإبلاغها إلى المطلوب وهو الفوز الخالد كإبلاغ الطريق إلى المكان المقصود للسائر، وهي استعارة متكررة في القرآن وفي كلام العرب‏.‏

والسبيل يؤنث كما في هذه الآية، ويذكّر أيضاً كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏146‏)‏‏.‏

والجملة استئناف ابتدائي معترضة بين الجمل المتعاطفة‏.‏

والإشارة إلى الشريعة بتنزيل المعقول منزلة المحسوس لبلوغه من الوضوح للعقول حداً لا يخفى فيه إلا عمّن لا يُعدّ مُدْركاً‏.‏

وما في جملة هذه سبيلي‏}‏ من الإبهام قد فسرته جملة ‏{‏ادعوا إلى الله على بصيرة‏}‏‏.‏

و ‏{‏على‏}‏ فيه للاستعلاء المجازي المراد به التمكن، مثل «على هدىً من ربهم»‏.‏

والبصيرة‏:‏ فعيلة بمعنى فاعلة، وهي الحجة الواضحة، والمعنى‏:‏ أدعو إلى الله ببصيرة متمكناً منها، ووصف الحجة ببصيرة مجاز عقلي، والبصير‏:‏ صاحب الحجة لأنه بها صار بصيراً بالحقيقة‏.‏ ومثله وصف الآية بمبصرة في قوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءتهم آياتنا مبصرة‏}‏ ‏[‏سورة النمل‏:‏ 13‏]‏‏.‏ وبعكسه يوصف الخفاء بالعمى كقوله‏:‏ ‏{‏وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وضمير أنا‏}‏ تأكيد للضمير المستتر في ‏{‏أدعوا‏}‏، أتي به لتحسين العطف بقوله‏:‏ ‏{‏ومن اتبعني‏}‏، وهو تحسين واجب في اللغة‏.‏

وفي الآية دلالة على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين آمنوا به مأمورون بأن يدعوا إلى الإيمان بما يستطيعون‏.‏ وقد قاموا بذلك بوسائل بث القرآن وأركان الإسلام والجهاد في سبيل الله‏.‏ وقد كانت الدعوة إلى الإسلام في صدر زمان البعثة المحمدية واجباً على الأعيان لقول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ بلّغوا عنّي ولو آيةً ‏"‏ أي بقدر الاستطاعة‏.‏ ثم لمّا ظهر الإسلام وبلغت دعوته الأسماع صارت الدعوة إليه واجباً على الكفاية كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير الآية‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏104‏)‏‏.‏

وعُطفت جملة وسبحان الله‏}‏ على جملة ‏{‏أدعوا إلى الله‏}‏، أي أدعو إلى الله وأنزهه‏.‏

وسبحان‏:‏ مصدر التسبيح جاء بدلاً عن الفعل للمبالغة‏.‏ والتقدير‏:‏ وأسبح الله سبحاناً، أي أدعو الناس إلى توحيده وطاعته وأنزّهه عن النقائص التي يشرك بها المشركون من دّعاء الشركاء، والولد، والصاحبة‏.‏

وجملة ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ بمنزلة التذييل لما قبلها لأنها تعمّ ما تضمنته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وما أكثر الناس‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 103‏]‏ الخ‏.‏ هاتان الآيتان متّصل معناهما بما تضمنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 102‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن هو إلاّ ذكر للعالمين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 104‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل هذه سبيلي‏}‏ الآية ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 108‏]‏، فإن تلك الآي تضمنت الحجة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فيما جاءهم به، وتضمنت أن الذين أشركوا غير مصدقينه عناداً وإعراضاً عن آيات الصدق‏.‏ فالمعنى أن إرسال الرسل عليهم السلام سنّة إلهية قديمة فلماذا يَجعل المشركون نبوءتك أمراً مستحيلاً فلا يصدّقون بها مع ما قارنها من آيات الصدق فيقولون‏:‏ أبعث الله بشراً رسولاً‏}‏‏.‏ وهل كان الرسل عليهم السلام السابقون إلا رجالاً من أهل القرى أوحى الله إليهم فبماذا امتازوا عليك، فسلم المشركون ببعثتهم وتحدّثوا بقصصهم وأنكروا نبوءتك‏.‏

وراء هذا معنى آخر من التذكير باستواء أحوال الرسل عليهم السلام وما لقوه من أقوامهم فهو وعيد باستواء العاقبة للفريقين‏.‏

و ‏{‏من قبلك‏}‏ يتعلق ب ‏{‏أرسلنا‏}‏ ف ‏{‏من‏}‏ لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة، أي من أول أزمنة الإرسال‏.‏ ولولا وجود ‏{‏من‏}‏ لكان ‏{‏قبلك‏}‏ في معنى الصفة للمرسَلين المدلول عليهم بفعل الإرسال‏.‏

والرجال‏:‏ اسم جنس جامد لا مفهوم له‏.‏ وأطلق هنا مراداً به أناساً كقوله صلى الله عليه وسلم «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» أي إنسان أو شخص، فليس المراد الاحتراز عن المرأة‏.‏ واختير هنا دون غيره لِمطابقته الواقع فإن الله لم يرسل رسلاً من النساء لحكمة قبول قيادتهم في نفوس الأقوام إذ المرأة مستضعفة عند الرجال دون العكس؛ ألا ترى إلى قول قيس بن عاصم حين تنبأت سَجَاحِ‏:‏

أضحت نبيئتُنا أنثى نُطِيف بها *** وأصبحت أنبياءُ الناس ذكرانا

وليس تخصيص الرجال وأنهم من أهل القرى لقصد الاحتراز عن النساء ومن أهل البادية ولكنه لبيان المماثلة بين مَن سلّموا برسالتهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا‏:‏ ‏{‏فليأتنا بآية كما أرسل الأولون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ و‏{‏قالوا لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏، أي فما كان محمد صلى الله عليه وسلم بِدعاً من الرسل حتى تبادروا بإنكار رسالته وتُعرضوا عن النظر في آياته‏.‏

فالقصر إضافي، أي لم يكن الرسل عليهم السلام قبلك ملائكةً أو ملوكاً من ملوك المدن الكبيرة فلا دلالة في الآية على نفي إرسال رسول من أهل البادية مثل خالد بن سنان العبسي، ويعقوب عليه السلام حين كان ساكناً في البَدْو كما تقدم‏.‏

وقرأ الجمهور، ‏{‏يُوحَى‏}‏ بتحتية وبفتح الحاء مبنياً للنائب، وقرأه حفص بنون على أنه مبني للفاعل والنون نون العظمة‏.‏

وتفريع قوله‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا في الأرض‏}‏ على ما دلت عليه جملة ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً‏}‏ من الأسوة، أي فكذّبهم أقوامهم من قبل قومك مثل ما كذّبك قومك وكانت عاقبتهم العقاب‏.‏ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الأقوام السابقين، أي فينظروا آثار آخر أحوالهم من الهلاك والعذاب فيعلم قومك أن عاقبتهم على قياس عاقبة الذين كذّبوا الرسل قبلهم، فضمير ‏{‏يسيروا‏}‏ عائد على معلوم من المقام الدال عليه ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 108‏]‏‏.‏

والاستفهام إنكاري‏.‏ فإن مجموع المتحدّث عنهم ساروا في الأرض فرأوا عاقبة المكذبين مثل عاد وثمود‏.‏

وهذا التفريع اعتراض بالوعيد والتهديد‏.‏

وكيف‏}‏ استفهام معلّق لفعل النظر عن مفعوله‏.‏

وجملة ‏{‏ولدار الآخرة‏}‏ خبر‏.‏ معطوفة على الاعتراض فلها حكمه، وهو اعتراض بالتبشير وحسن العاقبة للرسل عليهم السلام ومن آمن بهم وهم الذين اتقوا‏.‏ وهو تعريض بسلامة عاقبة المتقين في الدنيا‏.‏ وتعريض أيضاً بأن دار الآخرة أشد أيضاً على الذين من قبلهم من العاقبة التي كانت في الدنيا فحصل إيجاز بحذف جملتين‏.‏

وإضافة ‏{‏دار‏}‏ إلى ‏{‏آخرة‏}‏ من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل «يا نساء المسلمات» في الحديث‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ بتاء الخطاب على الالتفات، لأن المعاندين لما جرى ذكرهم وتكرر صاروا كالحاضرين فالتفت إليهم بالخطاب‏.‏ وقرأه الباقون بياء الغيبة على نسق ما قبله‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل‏}‏ ابتدائية، وهي عاطفة جملة ‏{‏إذا استيأس الرسل‏}‏ على جملة ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم‏}‏ باعتبار أنها حجة على المكذبين، فتقدير المعنى‏:‏ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يوحى إليهم فكذبهم المرسل إليهم واستمروا على التكذيب حتى إذا استيئس الرسل إلى آخره، فإن ‏{‏إذا‏}‏ اسم زمان مضمن معنى الشرط فهو يلزم الإضافة إلى جملة تبين الزمان، وجملة ‏{‏استيأس‏}‏ مضاف إليها ‏{‏إذا‏}‏، وجملة ‏{‏جاءهم نصرنا‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ لأن هذا الترتيب في المعنى هو المقصود من جلب ‏{‏إذا‏}‏ في مثل هذا التركيب‏.‏ والمراد بالرسل عليهم السلام غير المراد ب ‏{‏رجالا‏}‏، فالتعريف في الرسل عليهم السلام تعريف العهد الذَكريّ وهو من الإظهار في مقام الإضمار لإعطاء الكلام استقلالاً بالدلالة اهتماماً بالجملة‏.‏

وآذن حرف الغاية بمعنى محذوف دل عليه جملة ‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا‏}‏ بما قصد بها من معنى قصد الإسوة بسلفه من الرسل عليهم السلام‏.‏ والمعنى‏:‏ فدام تكذيبهم وإعراضهم وتأخر تحقيق ما أنذرُوهم به من العذاب حتى اطمأنوا بالسلامة وسخروا بالرسل وأيس الرسل عليهم السلام من إيمان قَومهم‏.‏

و ‏{‏استيأس‏}‏ مبالغة في يئس، كما تقدم آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تيأسوا من روح الله‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وتقدم أيضاً قراءة البزي بخلاف عنه بتقديم الهمزة على الياء‏.‏

فهذه أربع كلمات في هذه السورة خالف فيها البزي رواية عنه‏.‏

وفي صحيح البخاري‏}‏ عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها‏:‏ «أكُذِبوا أم كُذّبوا أي بالخفيف أم بالشدّ؛ قالت‏:‏ كذّبوا أي بالشد قال‏:‏ فقد استيقنوا أن قومهم كذّبوهم فما هو بالظن فهي ‏{‏قد كذبوا‏}‏ أي بالتخفيف، قالت‏:‏ معاذ الله لم يكن الرسل عليهم السلام تظن ذلك بربها وإنما هم أتباع الذين آمنوا وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر النصر حتى إذا استيأس الرسل عليهم السلام من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل عليهم السلام أن أتباعهم مُكذّبوهم» ا ه‏.‏ وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون ‏{‏كذبوا‏}‏ مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل، وذلك ليس بمتعيّن، ولم تكن عائشة قد بلغتْها رواية ‏{‏كذبوا‏}‏ بالتخفيف‏.‏

وتفريع ‏{‏فننجي من نشاء‏}‏ على ‏{‏جاءهم نصرنا‏}‏ لأن نصر الرسل عليهم السلام هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس، فينجي الله الذين آمنوا ولا يردّ البأس عن القوم المجرمين‏.‏

والبأس‏:‏ هو عذاب المجرمين الذي هو نصر للرسل عليهم السلام‏.‏‏.‏

والقوم المجرمون‏:‏ الذين كذبوا الرسل‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏فنُنْجِي‏}‏ بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء مضارع أنجى‏.‏ و‏{‏من نشاء‏}‏ مفعول ‏{‏ننجي‏}‏‏.‏ وقرأه ابن عامر وعاصم ‏{‏فنجّي‏}‏ بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم مكسورة وفتح التحتية على أنه ماضي ‏{‏نجّى المضاعف بني للنائب، وعليه فمن نشاء‏}‏ هو نائب الفاعل، والجمع بين الماضي في ‏(‏نجّي‏)‏ والمضارع في ‏{‏نشاء‏}‏ احتباك تقديره فنُجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملة ‏{‏ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك‏}‏ ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 102‏]‏ وهي تتنزّل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله‏:‏ ذلك من أنباء الغيب‏}‏ من التعجيب، وما تضمنه معنى ‏{‏وما كنتَ لديهم‏}‏ من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية‏.‏

وهي أيضاً تتنزل منزلة التذييل للجمل المستطرد بها لقصد الاعتبار بالقصة ابتداء من قوله‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏‏.‏

فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز‏.‏

وتأكيد الجملة ب ‏(‏قد‏)‏ واللام للتحقيق‏.‏

وأولو الألباب‏:‏ أصحاب العقول‏.‏ وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏}‏ في أواسط سورة البقرة ‏(‏197‏)‏‏.‏

والعِبرة‏:‏ اسم مصدر للاعتبار، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب وتطلق العِبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا‏.‏ ومعنى كون العبرة في قصصهم أنها مظروفة فيه ظرفية مجازية، وهي ظرفية المدلول في الدليل فهي قارة في قصصهم سواء اعتَبر بها من وُفّق للاعتبار أم لم يعتبر لها بعضُ الناس‏.‏

وجملة ما كان حديثا يفترى‏}‏ إلى آخرها تعليل لجملة ‏{‏لقد كان في قصصهم عبرة‏}‏ أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة‏.‏ ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبراً عن أمر وقع، لأن ترتب الآثار على الواقعات رتّب طبيعي فمِن شأنها أن تترتب أمثالُها على أمثالها كلما حصلت في الواقع، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر وذلك بخلاف القصص الموضوعة بالخيال والتكاذيب فإنها لا يحصل بها اعتبار لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يُعهد، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغُول عند العرب وقصة رستم وأسفنديار عند العجم، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخيالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها إلاّ على سبيل الفرص والاحتمال وذلك لا تحتفظ به النفوس‏.‏

وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورة ‏{‏نحن نقص عليك أحسن القصص‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 3‏]‏ فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضاً بالنضر بن الحارث وأضرابه‏.‏

والافتراء تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب‏}‏ في سورة العقود ‏(‏103‏)‏‏.‏

والذي بين يديه‏}‏‏:‏ الكتب الإلهية السابقة‏.‏ وضمير بين ‏{‏يديه‏}‏ عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص‏.‏

والتفصيل‏:‏ التبيين‏.‏ والمراد ب ‏{‏كل شيء‏}‏ الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص‏.‏

وإطلاق الكل على الكثرة مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏31‏)‏‏.‏

والهُدى الذي في القصص‏:‏ العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون، فتصلح أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسببٌ لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 97‏]‏‏.‏

سورة الرعد

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

تقدم الكلام على نظائر ‏{‏المر‏}‏ مما وقع في أوائل بعض السور من الحروف المقطعة‏.‏

القول في ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏ كالقول في نظيره من طالعة سورة يونس‏.‏

والمشار إليه ب ‏{‏تلك‏}‏ هو ما سبق نزوله من القرآن قبل هذه الآية أخبر عنها بأنها آيات، أي دلائل إعجازٍ، ولذلك أشير إليه باسم إشارة المؤنث مراعاة لتأنيث الخبر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذي أنزل إليك من ربك الحق‏}‏ يجوز أن يكون عطفاً على جملة ‏{‏تلك آيات الكتاب‏}‏ فيكون قوله‏:‏ ‏{‏والذي أنزل إليك‏}‏ إظهار في مقام الإضمار‏.‏ ولم يكتف بعطف خبَرٍ على خبر اسم الإشارة بل جيء بجملة كاملة مبتدئة بالموصول للتعريف بأن آيات الكتاب منزلة من عند الله لأنها لما تقرر أنها آيات استلزم ذلك أنها منزلة من عند الله ولولا أنها كذلك لما كانت آيات‏.‏

وأخبر عن الذي أنزل بأنه الحق بصيغة القصر، أي هو الحق لا غيره من الكتب، فالقصر إضافي بالنسبة إلى كتب معلومة عندهم مثل قصة رستم وإسفَنْديار اللتين عرفهما النضر بن الحارث‏.‏ فالمقصود الردّ على المشركين الذين زعموه كأساطير الأولين؛ أو القصرُ حقيقي ادعائي مبالغة لعدم الاعتداد بغيره من الكتب السابقة، أي هو الحق الكامل، لأن غيره من الكتب لم يستكمل منتهى مراد الله من الناس إذ كانت درجات موصلة إلى الدرجة العليا، فلذلك ما جاء منها كتاب إلا ونسخ العمل به أو عيّن لأمة خَاصة «إنّ الدين عند الله الإسلام»‏.‏

ويجوز أن يكون عطف مفرد على قوله‏:‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ مفرد، من باب عطف الصفة على الاسم، مثل ما أنشد الفراء‏:‏

إلى الملك القرم وابن الهم

ام وليث الكتيبة بالمزدحم

والإتيان ب ‏{‏ربك‏}‏ دون اسم الجلالة للتلطف‏.‏ والاستدراكُ بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ راجع إلى ما أفاده القصر من إبطال مساواة غيره له في الحقية إبطالاً يقتضي ارتفاع النزاع في أحقيته، أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بما دلت الأدلة على الإيمان به، فمن أجل هذا الخلق الذميم فيهم يستمر النزاع منهم في كونه حقاً‏.‏

وابتداء السورة بهذا تنويه بما في القرآن الذي هذه السورة جزء منه مقصود به تهيئة السامع للتأمل مما سيرد عليه من الكلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

الله الذى رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ استوى عَلَى العرش وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الامر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏

استئناف ابتدائي هو ابتداء المقصود من السورة وما قبله بمنزلة الديباجة من الخطبة، ولذا تجد الكلام في هذا الغرض قد طال واطّرد‏.‏

ومناسبَة هذا الاستئناف لقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ لأن أصل كفرهم بالقرآن ناشئ عن تمسكهم بالكفر وعن تطبعهم بالاستكبار والإعراض عن دعوة الحق‏.‏

والافتتاح باسم الجلالة دون الضمير الذي يعود إلى ‏{‏ربك‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 1‏]‏ لأنه معيّن به لا يشتبه غيره من آلهتهم ليكون الخبر المقصود جارياً على معيّن لا يحتمل غيره إبلاغاً في قطع شائبة الإشراك‏.‏

و ‏{‏الذي رفع‏}‏ هو الخبر‏.‏ وجُعل اسم موصول لكون الصلة معلومة الدلالة على أن من تثبت له هو المتوحد بالربوبية إذ لا يستطيع مثل تلك الصلة غير المتوحد ولأنه مسلم له ذلك ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والسماوات تقدمت مراراً، وهي الكواكب السيارة وطبقات الجو التي تسبح فيها‏.‏

ورفعها‏:‏ خلقها مرتفعة، كما يقال‏:‏ وَسّعْ طوقَ الجُبة وضيّقْ كمها، لا تريد وسعه بعد أن كان ضيقاً ولا ضيقه بعد أن كان واسعاً وإنما يراد اجْعَلْه واسعاً واجعله ضيقاً، فليس المراد أنه رفعها بعد أن كانت منخفضة‏.‏

والعَمَد‏:‏ جمع عماد مثل إهاب وأهَب، والعماد‏:‏ ما تقام عليه القبة والبيت‏.‏ وجملة ترونها‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏السماوات‏}‏، أي لا شبهة في كونها بغير عمد‏.‏

والقول في معنى ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ تقدم في سورة الأعراف وفي سورة يونس‏.‏

وكذلك الكلام على ‏{‏سخر الشمس والقمر‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره في سورة الأعراف ‏(‏54‏)‏‏.‏

والجري‏:‏ السير السريع‏.‏ وسير الشمس والقمر والنجوم في مسافات شاسعة، فهو أسرع التنقلات في بابها وذلك سيرها في مداراتها‏.‏

واللام للعلة‏.‏ والأجل‏:‏ هو المدة التي قدرها الله لدوام سيرها، وهي مدة بقاء النظام الشمسي الذي إذا اختل انتثرت العوالم وقامت القيامة‏.‏

والمسمّى‏:‏ أصله المعروف باسمه، وهو هنا كناية عن المعيّن المحدّد إذ التسمية تستلزم التعيين والتمييز عن الاختلاط‏.‏

يُدَبَّرُ الامر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ‏}‏

جملة ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ في موضع الحال من اسم الجلالة‏.‏ وجملة ‏{‏يفصل الآيات‏}‏ حال ثانية تُرك عطفها على التي قبلها لتكون على أسلوب التعداد والتوقيف وذلك اهتمام باستقلالها‏.‏ وتقدم القول على ‏{‏يدبر الأمر‏}‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏ومن يدبر الأمر‏}‏ في سورة يونس ‏(‏3‏)‏‏.‏

وتفصيل الآيات تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏أحكمت آياته ثم فصلت‏}‏ في طالعة سورة هود ‏(‏1‏)‏‏.‏

ووجه الجمع بينهما هنا أن تدبير الأمر يشمل تقدير الخلق الأول والثاني فهو إشارة إلى التصرف بالتكوين للعقول والعوالم، وتفصيل الآيات مشير إلى التصرف بإقامة الأدلة والبراهين، وشأن مجموع الأمرين أن يفيد اهتداء الناس إلى اليقين بأن بعد هذه الحياة حياة أخرى، لأن النظر بالعقل في المصنوعات وتدبيرها يهدي إلى ذلك، وتفصيلَ الآيات والأدلة ينبه العقول ويعينها على ذلك الاهتداءِ ويقرّبه‏.‏

وهذا قريب من قوله في سورة يونس‏:‏ ‏{‏يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذّكرون إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً إنه يبدأُ الخلق ثم يعيده‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وهذا من إدماج غرض في أثناء غرض آخر لأن الكلام جار على إثبات الوحدانية‏.‏ وفي أدلة الوحدانية دلالة على البعث أيضاً‏.‏

وصيغ يدبر‏}‏ و‏{‏يفصل‏}‏ بالمضارع عكس قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات‏}‏ لأن التدبير والتفصيل متجدّد متكرر بتجدد تعلق القدرة بالمقدورات‏.‏ وأما رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر فقد تم واستقرّ دفعة واحدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

وَهُوَ الذى مَدَّ الارض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وأنهارا وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين يُغْشِى اليل النهار إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِى‏}‏

عطف على جملة ‏{‏الله الذي رفع السماوات‏}‏ فبين الجملتين شبه التضاد‏.‏ اشتملت الأولى على ذكر العوالم العلوية وأحوالها، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه خالق جميع العوالم وأعراضها‏.‏

والمد‏:‏ البسط والسعة، ومنه‏:‏ ظل مديد، ومنه مد البحر وجزره، ومد يده إذا بسطها‏.‏ والمعنى‏:‏ خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالاً شاهقة متلاصقة لما تيسّر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره‏.‏ وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدّها بل هو كقوله‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات‏}‏، فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة‏.‏

والرواسي‏:‏ جمع رَاسسٍ، وهو الثابت المستقر‏.‏ أي جبالاً رواسي‏.‏ وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله‏:‏ ‏{‏وله الجواري‏}‏، أي السفن الجارية‏.‏ وسيأتي في قوله‏:‏ ‏{‏وألقى في الأرض رواسي‏}‏ في سورة النحل ‏(‏15‏)‏ بأبسط مما هنا‏.‏

وجيء في جمع راسسٍ بوزن فواعل لأن الموصوف به غير عاقل، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل‏:‏ صاهل وبازل‏.‏

والاستدلال بخلق الجبال على عظيم القدرة لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى الجبال كيف نصبت‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 19‏]‏‏.‏

والأنهار‏:‏ جمع نهر، وهو الوادي العظيم‏.‏ وتقدم في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏إن الله مبتليكم بنهر‏}‏ ‏(‏249‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ومن كل الثمرات‏}‏ عطف على ‏{‏أنهاراً‏}‏ فهو معمول ل ‏{‏جَعل فيها رواسِيَ‏}‏‏.‏ ودخول ‏{‏مِن‏}‏ على ‏{‏كلّ‏}‏ جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله‏:‏ ‏{‏وبث فيها من كل دابة‏}‏‏.‏ و‏{‏مِن‏}‏ هذه تُحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد‏.‏

والمراد ب ‏{‏الثمرات‏}‏ هيَ وأشجارُها‏.‏ وإنما ذكرت ‏{‏الثمرات‏}‏ لأنها موقع منة مع العبرة كقوله‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به من كل الثمرات‏}‏ ‏[‏سورة الأعراف‏:‏ 57‏]‏‏.‏ فينبغي الوقف على ومن كل الثمرات‏}‏، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض‏.‏ وهذا أحسن تفسيراً‏.‏ ويعضده نظيره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون‏}‏ في سورة النحل ‏(‏11‏)‏‏.‏

وقيل إن قوله‏:‏ ومن كل الثمرات‏}‏ ابتداء كلام‏.‏

وتتعلق ‏{‏من كل الثمرات‏}‏ ب ‏{‏جعل فيها زوجين اثنين‏}‏، وبهذا فسر أكثر المفسرين‏.‏ ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير، لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين‏.‏

وأيضاً فيه فوات المنة بخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم‏.‏ ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى ‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 6 8‏]‏‏.‏ والمعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى قال تعالى‏:‏ ‏{‏فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى‏}‏ ‏[‏سورة القيامة‏:‏ 39‏]‏‏.‏

والظاهر أن جملة جعل فيها زوجين‏}‏ مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكراً وأنثى أحدهما زوج مع الآخر‏.‏ وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏35‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وخلق منها زوجها‏}‏ في أول سورة النساء ‏(‏1‏)‏، وقوله‏:‏ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين‏}‏‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏]‏ فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناءً على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازاً على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق، والقرينة قوله‏:‏ أنبتنا‏}‏ مع عدم التثنية، كذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى‏}‏ في سورة طه ‏(‏53‏)‏‏.‏

وتنكير زوجين‏}‏ للتنويع، أي جعل زوجين من كل نوع‏.‏ ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثمانية أزواج من الضّأن اثنين ومن المعز اثنين‏}‏ الآية في سورة الأنعام ‏(‏143‏)‏‏.‏

والوصف بقوله‏:‏ اثنين‏}‏ للتأكيد تحقيقاً للامتنان‏.‏

‏{‏يُغْشِى اليل النهار إِنَّ فِى ذلك لآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏

جملة ‏{‏يغشي‏}‏ حال من ضمير ‏{‏جعل‏}‏‏.‏ وجيء فيه بالمضارع لما يدل عليه من التجدد لأن جعل الأشياء المتقدم ذكرها جعل ثابت مستمر، وأما إغشاء الليل والنهار فهو أمرٌ متجدّد كل يوم وليلة‏.‏ وهذا استدلال بأعراض أحوال الأرض‏.‏ وذكرُه مع آيات العالم السفلي في غاية الدقة العلمية لأن الليل والنهار من أعراض الكرة الأرضية بحسب اتجاهها إلى الشمس وليسَا من أحوال السماوات إذ الشمس والكواكب لا يتغير حالها بضياء وظلمة‏.‏

وتقدم الكلام على نظير قوله‏:‏ ‏{‏يغشي الليل والنهار‏}‏ في أوائل سورة الأعراف ‏(‏54‏)‏‏.‏

وقرأه الجمهور بسكون الغين وتخفيف الشين مضارع أغشى‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوبُ، وخلف بتشديد الشين مضارع غَشّى‏.‏

وقوله‏:‏ إن في ذلك لآيات‏}‏ الإشارة إلى ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ إلى هنا بتأويل المذكور‏.‏

وجَعل الأشياء المذكورات ظروفاً لآيات‏}‏ لأن كل واحدة من الأمور المذكورة تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام‏.‏ ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قَوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم، أي جبلتهم كما بيناه في دلالة لفظ ‏{‏قوم‏}‏ على ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

وفي هذا إيماء إلى أن الذين نسبوا أنفسهم إلى التفكير من الطبائعيين فعللوا صدور الموجودات عن المادة ونفوا الفاعل المختار ما فكروا إلا تفكيراً قاصراً مخلوطاً بالأوهام ليس ما تقتضيه جبلة العقل إذْ اشتبهت عليهم العلل والمواليد، بأصل الخلق والإيجاد‏.‏

وجيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومُكرر‏.‏

والتفكير تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا تتفكرون‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏50‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها، فجاء ذلك معطوفاً على الأشياء التي أسند جَعْلها إلى الله تعالى، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها‏.‏ وأمثال هذه العِبر، ولَفْتتِ النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب‏.‏

وأعيد اسم ‏{‏الأرض‏}‏ الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضَى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب، وأصل انتظام الكلام أن يقال‏:‏ جَعل فيها زوجين اثنين، وفيها قطعٌ متجاورات، فعدل إلى هذا توضيحاً وإيجازاً‏.‏

والقِطع‏:‏ جمع قِطعة بكسر القاف، وهي الجزء من الشيء تشبيهاً لها بما يقتطع‏.‏ وليس وصف القِطع بمتجاورات مقصوداً بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات، بل المقصود وصفٌ محذوف دل عليه السياق تقديره؛ مختلفات الألوان والمنابت، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏}‏‏.‏

وإنما وصفت بمتجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاور أشد دلالة على القدرة العظيمة، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جُدَدٌ بِيض وحُمر مختلفٌ ألوانها وغرابيب سود‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏‏.‏

فمعنى قطع متجاورات‏}‏ بقاعٌ مختلفة مع كونها متجاورةً متلاصقة‏.‏

والاقتصار على ذكر الأرض وقِطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ‏.‏ ومجرد ذكر القطَع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأبّ والكلإ وهي مراعي أنعامهم ودوابّهم، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أُكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شَرعهُ بعض الحيوان على بعضه دون بعض‏.‏

وتقدم الكلام على ‏{‏وجنات من أعناب‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 99‏]‏‏.‏

والزرع تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏والنخل والزرع مختلفا أكله‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏

والنخيل‏:‏ اسم جمع نخلة مثل النخل، وتقدم في تلك الآية، وكلاهما في سورة الأنعام‏.‏

والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها‏.‏

وقرأ الجمهور وزرع ونخيل‏}‏ بالجر عطفاً على ‏{‏أعناب‏}‏، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفاً على ‏{‏جنات‏}‏‏.‏ والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساوٍ للذي في غيرها فاكتُفي به قضاء لحق الإيجاز‏.‏ وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات، والنخل لا يكون إلاّ في جنات‏.‏

وصنوان‏:‏ جمع صِنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز، وبضمها فيهما أيضاً وهي لغة تميم وقيسسٍ‏.‏ والصنو‏:‏ النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات‏.‏

الواحد صنو والمثنى صنواننِ بدون تنوين، والجمع صِنوانٌ بالتنوين جمع تكسير‏.‏ وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسةُ جموع‏:‏ صِنو وصنوانٌ، وقِنْو وقنوانٌ، وزِيدٍ بمعنى مِثْل وزِيدَاننٍ، وشِقْذ ‏(‏بذال معجمة اسم الحرباء‏)‏ وشِقذان، وحِشّ ‏(‏بمعنى بستان‏)‏ وحِشاننٍ‏.‏

وخصّ النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى‏.‏ ووجه زيادة ‏{‏وغير صنوان‏}‏ تجديد العبرة باختلاف الأحوال‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏صنوان وغير صنوان‏}‏ بجر ‏{‏صنوان‏}‏ وجر ‏{‏وغير‏}‏ عطفاً على ‏{‏زرع‏}‏‏.‏ وقرأهما ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفاً على ‏{‏وجنات‏}‏‏.‏

والسقي‏:‏ إعطاء المشروب‏.‏ والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقى ببعضه‏.‏

والتفضيل‏:‏ منة بالأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تُسقَى‏}‏ بفوقية اعتباراً بجمع ‏{‏جنات‏}‏، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب ‏{‏يسقى‏}‏ بتحتية على تأويل المذكور‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ونفضل‏}‏ بنون العظمة، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏ويفضل‏}‏ بتحتية‏.‏ والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد‏}‏‏.‏ وتأنيث ‏{‏بعضها‏}‏ عند من قرأ ‏{‏يسقى‏}‏ بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض في الثمرة‏.‏

والأُكْل‏:‏ بضم الهمزة وسكون الكاف هو المأكول‏.‏ ويجوز في اللغة ضم الكاف‏.‏

وظرفية التفضيل في ‏{‏الأكل‏}‏ ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره‏.‏ والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحداً والغذاء بالماء واحداً ما هو إلا لقوى خفيّة أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة‏.‏

ومن ثم جاءت جملة ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏ مجيء التذييل‏.‏

وأشار قوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إلى جميع المذكور من قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي مدّ الأرض‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات‏.‏ وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك‏.‏

ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضاً بأن من لم تقنعهم تلك الآيات منزّلون منزلة من لا يعقل‏.‏ وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة قَوم‏}‏ إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏الله الذي رفع السماوات بغير عمد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ فلما قُضِي حق الاستدلال على الوحدانية نقل الكلام إلى الردّ على منكري البعث وهو غرض مستقل مقصود من هذه السورة‏.‏ وقد أدمج ابتداءً خلال الاستدلال على الوحدانية بقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم بلقاء ربكم توقنون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ تمهيداً لما هنا، ثم نقل الكلام إليه باستقلاله بمناسبة التدليل على عظيم القدرة مستخرجاً من الأدلة السابقة عليه أيضاً كقوله‏:‏ ‏{‏أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إنه على رَجعه لقادر‏}‏ ‏[‏سورة الطارق‏:‏ 8‏]‏ فصيغ بصيغة التعجيب من إنكار منكري البعث لأن الأدلة السالفة لم تبق عذراً لهم في ذلك فصار في إنكارهم محل عجب المتعجب‏.‏

فليس المقصود من الشرط في مثل هذا تعليق حصول مضمون جواب الشرط على حصول فعل الشرط كما هو شأن الشروط لأن كون قولهم‏:‏ أإذا كنا تراباً‏}‏ عجباً أمر ثابت سواء عجب منه المتعجب أم لم يعجب، ولكن المقصود أنه إن كان اتصاف بتعجب فقولهم ذلك هو أسبق من كل عجب لكل متعجب، ولذلك فالخطاب يجوز أن يكون موجهاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المناسب بما وقع بعده من قوله‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 6‏]‏ وما بعده من الخطاب الذي لا يصلُحُ لغير النبي‏.‏ ويجوز أن يكون الخطاب هنا لغير معين مثل ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

والفعل الواقع في سياق الشرط لا يقصد تعلقه بمعمول معين فلا يقدر‏:‏ إن تعجب من قول أو إن تعجب من إنكار، بل ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول‏.‏ والتقدير‏:‏ إن يكن منك تعجب فاعجب من قولهم الخ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

على أن وقوع الفعل في سياق الشرط يشبه وقوعه في سياق النفي فيكون لعموم المفاعيل في المقام الخَطابي، أي إن تعجب من شيء فعجب قولهم‏.‏ ويجوز أن تكون جملة وإن تعجب‏}‏ الخ عطفاً على جملة ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏سورة الرعد‏:‏ 1‏]‏‏.‏ فالتقدير‏:‏ إن تعجب من عدم إيمانهم بأن القرآن منزل من الله، فعجب إنكارهم البعث‏.‏

وفائدة هذا هو التشويق لمعرفة المتعجب منه تهويلاً له أو نحوه، ولذلك فالتنكير في قوله‏:‏ فعجب‏}‏ للتنويع لأن المقصود أن قولهم ذلك صالح للتعجيب منه، ثم هو يفيد معنى التعظيم في بابه تبعاً لما أفاده التعليق بالشرط من التشويق‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أإذا كنا تراباً‏}‏ إنكاري، لأنهم موقنون بأنهم لا يكونون في خلق جديد بعد أن يكونوا تراباً‏.‏ والقول المحكي عنهم فهو في معنى الاستفهام عن مجموع أمرين وهما كونهم‏:‏ تراباً، وتجديد خلقهم ثانية‏.‏ والمقصود من ذلك العجب والإحالة‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أإذا كنا‏}‏ بهمزة استفهام في أوله قبل همزة ‏{‏إذا‏}‏‏.‏ وقرأه ابن عامر بحذف همزة الاستفهام‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أإنا لفي خلق جديد‏}‏ بهمزة استفهام قبل همزة ‏{‏إنّا‏}‏‏.‏ وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بحذف همزة الاستفهام‏.‏

والإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين كفروا بربهم‏}‏ للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبَر لأجْل ما سبق اسمَ الإشارة من قولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد‏}‏ بعد أن رأوا دلائل الخلق الأول فحق عليهم بقولهم ذلك حكمان‏:‏ أحدهما أنهم كفروا بربهم لأن قولهم‏:‏ ‏{‏أإذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد‏}‏ لا يقوله إلا كافر بالله‏.‏ أي بصفات إلهيته إذ جعلوه غير قادر على إعادة خلقه؛ وثانيهما استحقاقهم العذاب‏.‏

وعطف على هذه الجملة جملة ‏{‏وأولئك الأغلال في أعناقهم‏}‏ مفتتحة باسم الإشارة لمثل الغرض الذي افتتحت به الجملة قبلها فإن مضمون الجملتين اللتين قبلها يحقق أنهم أحرياء بوضع الأغلال في أعناقهم وذلك جزاء الإهانة‏.‏ وكذلك عطف جملة ‏{‏وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الأغلال في أعناقهم‏}‏ وعيد بسوقهم إلى الحساب سوق المذلة والقهر، وكانوا يضعون الأغلال للأسرى المثقلين، قال النابغة‏:‏

أو حُرّة كمهاة الرمل قد كُبلت *** فوق المعاصم منها والعراقيب

تدعو قعينا وقد عض الحديد بها *** عض الثقاف على صمّ الأنابيب

والأغلال‏:‏ مع غُل بضم الغين، وهو القيد الذي يوضع في العنق، وهو أشد التقييد‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وإعادة اسم الإشارة ثلاثاً للتهويل‏.‏

وجملة هم فيها خالدون‏}‏ بيان لجملة أصحاب النار‏.‏